كيف نشأة الاشتراكية

كيف نشأة الاشتراكية 

إن الاشتراكية كمبدأ من المبادئ السياسية أو كنظرية من النظريات الاقتصادية أو كنظام من النظم الاجتماعية لا يمكن ان تنشأ مبكرة فى المجتمعات الإنسانية إذ أن الاشتراكية فى هذه الصورة المتقدمة تعتبر وليدة تعقيدات اقتصادية بالنسبة للأفراد والمجتمعات ونتيجة لمجهود كبير وثقافة علمية واسعة وهذا يستلزم من غير شك نضجا عقليا وتطورا اجتماعيا 



ومن اجل ذلك ظلت الاشتراكية بصورها العلمية والسياسية والاقتصادية مجهولة حتى عصر النهضة الغربية الحديثة حيث نشأت الصناعة فى الشعوب الغربية فأوجت نوعا من التنافس بين هذه الشعوب كما أوجدت طبقة بورجوازية جديدة من الطبقتين السائدتين فى العصور الوسطى هما طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء ولقد جر هذا وذاك ( الصناعة والتنافس ) إلى ألوان شتى من التعقيدات المالية أو الاقتصادية بين الطبقات فى كل شعب أو فى كل مجتمع ومن هنا أخذ المثقفون والفلاسفة يحاولون بكل طاقتهم أن يوجدوا نوعا من النظام يحد من سلطان اصحاب المصانع أو رؤوس الأموال


 ويقلل من غلوائهم فى مواجهة من يعملون عندهم أو تحت سيطرتهم ويدعم مركز الصناع والعمال من الناحية الاقتصادية والاجتماعية مما دفع بهؤلاء المثقفين والفلاسفة إلى التعمق فى الدراسات الاقتصادية والعمل المتواصل فى ميدان خلق النظريات والمذاهب وايجاد الحلول لكل ما يجد فى المجتمع من مشاكل عمالية واقتصادية وهكذا شهد العالم فى أوائل النهضة الحديثة صراعا عقليا واقتصاديا لا مثيل له فى الماضى بين الشعوب الغربية مثل انجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا


هذا عن الاشتراكية كمبدأ أو كنظرية أو كنظام أما عن الاشتراكية كسلوك او كعمل فالأمر يختلف عن ذلك اختلافا كبيرا إذ اننا لا نستطيع أن نحدد تحديدا زمنيا مضبوطا العصر الذى نشأت فيه الاشتراكية بهذا التصور او بهذا المفهوم فهو من غير شك متقدم جدا فى حياة الشعوب والامم وكلما امتد بنا التفكير فى القضية وواصلنا القراءة والإطلاع على ما كتب فيها من بحوث ومؤلفات نزداد يقيننا بأن الاشتراكية كسلوك وعمل ظاهرة بدائية إذ أنها بهذا التصور لا تحتاج إلى عمل العقل فى الحياة الاقتصادية فى المجتمع 



لكى توضع المقدمات ثم نستنتج النتائج فى صورة صيغ لغوية جديدة واصطلاحات علمية حديثة لم يكن لها قيمة فيما مضى كيان او وجود غير ان ذلك لا يعنى أبدا ان الاشتراكية فى هذا المظهر البدائى الفطرى كانت على صورة واضحة المعالم شبه متكاملة ولكنها كانت تلقائية فجة غامضة ليس لها إطار خاص ولا مظهر خاص تكاد تكون هيكلا بلا ملامح ولا تقاطيع أو تصور وليدا بدون اسم ولا أبعاد إذ أن طبيعة الحياة فى هذه المجتمعات الفطرية البدائية كانت تفرض على كبار القوم رعاية صغار الناس وفقرائهم واصحاب العوز والحاجة من بينهم كما كان رئيس القبيلة أو العشيرة يستنكف أشد الاستنكاف أن يرى واحدا من أفراد القبيلة أو العشيرة فى ضائقة مالية أو فى عوز مادى وربما اشتد استنكاره حيث يعرف أن هذا الفرد الذى ينتمى الى عشيرته أو قبيلته قد التجا إلى قبيلة أخرى يستعين بها على فك تلك الضائقة المالية او هذه الازمة المالية ولقد بلغ الأمر بهذه الطائفة من كبار تلك المجتمعات ان يعتبروا أنفسهم مسئولين عن حاجة الافراد الذين يعيشون فى كنفهم أو يمتون اليهم بصلة القرابة أو النسب أو الولاء 


وليس ذلك كله فى حقيقة الأمر سوى صور او مظاهر الاشتراكية التى كانت موجودة فى تلك المجتمعات الفطرية عمليا لا نظريا وسلوكيا لا قولا وما كان هؤلاء ولا اولئك يتمسكون بهذا المظهر الاشتراكى بناء على نظرية سياسية أو مذهب اجتماعى أو مبدا اقتصادى بل كانت طبيعة الحياة وما تستلزمه من ضروريات وظروف المجتمع وما يحيط به من ملابسات هى التى تفرض عليهم التحلى بتلك الصفات وتلزمهم بالتمسك بهذه العادات وتجعلهم يحسون إحساسا عميقا بأن التنازل عنها أو التنحى عن مستلزماتها يعرضها للخزى والفضيحة والعار


ولقد رأينا فى تاريخ بعض الشعوب القديمة يوم كانت تعيش عيشة الفطرة امثلة متعددة من هذا السلوك الاشتراكى بل إن هذا السلوك كان له فى بعض الأحيان أكثر من قوة القانون بحيث يحاسب المجتمع مخالفة حسابها عسيرا وأينا ذلك فى المجتمع العبى يوم كان يعيش عيشة بدوية أو قبلية فى العصور السابقة على الإسلام وراينا ذلك فى المجتمع الاغريقى يوم كان يعيش الشعب وفقا لقوانيين موضوعه وسياسة محددة ومن يقرأ الياذة وأوديسة الشاعر هوميروس يجد عددا لا يكاد يحصى من الأمثال على تمسك اليونانيين بهذه المظاهر الاشتراكية العملية ورأينا روما قبل ان تجمع كل القبائل الإيطالية فى شمالها وفى وسطها وفى جنوبها فى دولة واحدة موحدة تحت ظل الارادة والقانون ومن يقرأ ملحمة الشاعر الاتينى فى نشأته فيرجيليوس تكل الملحمة التى تصور الشعب الاتينى فى نشأته وفى حياته القبلية وفى تطوره نقول أنمن يقرا ملحمة فيرجيليوس يجد فيها امثلة عديدة تصور ممارسة الاتينين الأوائل لمظاهر الاشتراكية من عض جوانبها العملية 


والذى نريد ان نهتدى اليه من وراء ذلك كله هو أن الأشتراكية فى بعض أشكالها تعتبر ظاهرة طبيعية فى حياة الشعوب البدائية بل ضرورة من ضروريات الحياة تلزم فترة من فترات التطور لدى تلك الشعوب 


ومع ذلك فلسنا فى حاجة الى التنقيب فى تاريخ هذه الشعوب لاستخراج الامثلة التى توضح طبيعة الاشتراكية فى حياة مجتمعاتهم ومدى التلازم بين هذا النظام الاجتماعى وظروف الحياة فى هذه المجتمعات إذ يكفى أن نتعرف الان على بعض القبائل التى لا تزال تعيش فى صحراء مصر الشرقية والغربية أو بعض العشائر التى تعيش فى المناطق الجبلية أو الجزر اليونانية البعيدة عن مراكز التمدن والإدارة والحضارة لنرى ما يجرى بين أفراد هذه القبائل والعشائر من تعاون ومؤازرة ومواساة فى المجال المادى وفى المجال الروحى على حد سواء 


ان هذه المظاهر من المعاونة والمؤازرة والموساه تكون فى مجموعها شكلا من أشكال الاشتراكية التى توجد دون الحاجة الى دراسة أو ثقافة أو اعمال الذهن لوضع نظرية عملية أو تأليف مذهب سياسى والناس كانوا أو لا يزالون يمارسونها تلقائيا عمليا تحت عناوين مختلفة وما كان يخطر ببالهم أبدا هذا الاصطلاح الاشتراكية نفسها فى اللغات المتعددة لو افترضنا وجودها عند تلك المجتمعات الفطرية لما فهموا منها ذلك المدلول الذى يتناوله الناس فى العصر الحديث واذا فمن السهل على الدارس أن يدرك مفهوم الاشتراكية لدى الشعوب القديمة ومفهومها فى العصر الحديث كما أنه من السهل عليه أيضا أن يستخلص ما بينها من فوارق وحدود 


وعلى ضوء ما تقدم نستطيع ان نقول أن الاشتراكية بمفهومها العملى التلقائى الفطرى تسبق فى الوجود الاشتراكية بمصطلحها العملى والمذهبى والسياسى فالأولى تجئ نتيجة لإحساس بالحاجة وتلبية لضرورات اجتماعية غير أنها لا تخضع فى تنفيذها الى قوة ولا الى قانون ولا الى تنظيم إدارى والثانية وإن كانت تجئ بدورها نتيجة لإحساس بالحاجة وتلية لضرورات اجتماعية إلا انها تفتقر فى تنفيذها إلى التنظيم الإدارى والى قوة القانون وإلى الثقافة الاقتصادية الأولى يستجيب الناس لها طواعية أما الثانية فيستجبون لها عن طريق القوة والإلزام 


ولعل السؤال الذى يخطر بالبال بعد هذا العرض هو أى النوعين أفضل من الآخر ؟
والجواب السريع على ذلك هو انه ليس من السهل ولا من المنطق أن يفاضل بين النوعين فكلاهما ضرورة فى وقته وكلاهما يمثل مرحلة خاصة من مراحل تطور الشعوب والمجتمعات قد يمكن التفاضل بين صورتين أو مشكلتين لنوع واحد فى شعبين أو مجتمعين أم التفضيل بين هذين النوعين فى مجتمع واحد فهذا لا يقره الواقع ولا يرتضيه العقل 


إن النوع الاول من الاشتراكية هى الاشتراكية الفطرية والتلقائية الذى يمارس تحت اسماء متعددة ومصطلحات مختلفة ذكرنا بعضها منها فيما مضى نقول إن هذا النوع من الاشتراكية يصور مرحلة الطفولة بالنسبة لها وليس هناك أمد محدود بالنسبة لبقاء هذه المرحلة فقد يبقى الشعب أو المجتمع اجيالا عديدة فى نفس هذه المرحلة من البدائية والبداوة والبساطة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعلماء الاجتماع أو الدارسون لحياة الشعوب يقرون ذلك ولا يجدون فيه مخالفة لسنة النشوء والتطور


وقد ينتقل الشعب بسرعة من فترة البدائية والبداوة حيث الحياة الفطرية الى فترة من التطور الاجتماعى والتقدم العقلى والتحضر الثقافى فتبدا من هنا الاشتراكية العلمية القانونية حيث تزداد الحياة تعقيدا ومسؤلية وتشابكا 

ومن هنا نستطيع ان نقول ان الاشتراكية كما عرفناها وكما فهمناها تمر بمرحلتين كبيرتين هما مرحلة الطفولة ومرحلة النضوج وكل مرحلة خواصها وظروفها ومميزاتها وسواء اكانت فى مرحلتها الأولى أم الثانية فهى وليدة ضرورة اجتماعية وتلبية لحاجة ماسة مما  يجعلنا نؤمن بانها ظاهرة اجتماعية كسائر الظواهر الاجتماعية الأخرى كظاهرة اللغة التى يتفاهم بها افراد المجتمع وظاهرة الترابط بين الفرد وبين المجموعة التى ينتمى اليها 


تعليقات